روتين
لبرهةٍ أخذت أفكر كيف أمضى أحدهم عشرات السنين يحافظ على علاجه اليومي دون أن يمتعض يوماً أو يصيبه الملل؛ وأدركت في تلك اللحظة أن الخمسة أشهر الماضية ليست كافيةً كي يصيبني هذا الملل أو يمر على عقلي خاطرة أن أتهرب من الدواء لمدة يوم، أظن أننا نصاب جسدياً ونفسياً كي نغوص في قرارة أنفسنا ونرى ذواتنا في الشكل الأكثر طهراً وندرك معنى أن تكون عبداً ضعيفاً لرباً قد جعل القوة اسماً من أسمائه.
في الحقيقة الروتين قاتلٌ لمن هم مثلي ولا يطيقون تكرار أيامهم بحذافيرها؛ حتى لو تشابهت الأماكن والأفعال تختلف المشاعر كلياً، ولكنني دائماً أخشى الإجابة عن سؤال إلى متى سوف أصمد أمام التهرب من الروتين أم أنني سأكون سجيناً فيه عن قريب؟
على مدار السنوات -الأشهر- الماضية أحاول أن أعتاد على عدم المواجهة وأشعر أنها ستبعث بفوضى عارمة وغير مجدية؛ وسوف يحتدم الكلام دون جدوى من أن يدرك أحدهم خطأه أو أن يقرر أن يواجه نفسه بالحقائق لبرهة؛ يصبح فيها كطفلاٍ على سجيته يشير بأصابع الاتهام نحو ذاته حين يُسأل عن فعلة ما قد اقترفها. وعلى الجانب الآخر من المواجهة أحاول دائماً أن أضع أخطائي نصب عيني لا لتعرقلني أو أندم عليها ولكن حتى أتعلم منها دوماً؛ وحتى لا يصبني الغرور على شاكلة «أنا خيرًا منه».
كيف تنأى بنفسك عن كل هذا؟ سؤالاً أصبحت اجابته صعبة المنال؛ ومع الوقت تشعر أنه من المفترض أن ترتدي زياً يتشابه مع من هم حولك؛ وأن تحمل عقل أحدهم فوق رأسك كي تحظى بمزيد من القبول وتصبح فرداً قادراً على الاندماج؛ وفي الحقيقة أعتبر أنها معادلة بائسة ستجعل من يخطو نحوها كائناً رخواً ليس له معنى، لقد قرأت مقولة رائعة للراحل علي عزت بيجوفيتش يقول فيها "الشخص اليقظ بين السكارى مُضحك ومثير للسخرية، ففي مجتمع السكارى يكون السكارى هم الأغلبية التي تحدد معيار الحالة السوية، ويصبح اليقظ شاذًا." وهنا أدركت عظمة جملة الحديث "طوبى للغرباء".
وعلى ذكر المرض لقد كتبت كثيراً عن غباء المقارنة وأنها ليست سبيلاً للتهويل؛ فمن تصيبه الحمى يرى أن مرضه هو الأصعب في العالم واجباره على المقارنة مع أمراض الآخرين ليس سبيلاً للرضا؛ ذاك الشعور الملائكي الذي يلقي بظلاله على الروح والقلب معاً فتصبح راضياً كل الرضى بما مضى وبما هو آت.
في النهاية أشعر أن الأشياء يجب أن توصف بوصفها الصحيح مهما زاد أو نقص من هم على قناعة بها، وأن لا تتبدل دواخلنا طبقاً للواقع الخارجي من حولنا، فلعل ثمة أمل ما دمنا نصف القبح قبحاً والجمال جمالاً، وأن يظل الكذب لعيناً؛ ويظل انعدام الضمير لا أخلاقياً وليس دهاءً؛ وأن لا يندثر اللطف؛ وأن تبقى الصداقة شيئاً سامياً؛ ويظل الحب شعوراً خالصاً.
فبراير ٢٠٢٣