مخدر
أشعر في تلك الأثناء أنني اُمارس الزيف على غير استحياء، أسمع دعوات البعض ودعمه لي ليس بصوتهم المرتفع وإنما على هيئة همهمات لا تضح كثيراً، لا أعرف لماذا أتوقع الأسوء وكأنني موسى وأوجست في نفسي خيفة، لقد أصبحت أجد في بكائي الكثير من الأنس، وكأن تلك الدموع تمر على وجهي لتبعث بداخلي شيئاً من الدفئ، ولكن تظل خلف ابتسامتي وخطواتي الكثير من الألم الذي لا أعتبر الحديث عنه مع المقربين سبيلاً للمتاجرة به ولكن سبيلاً للمشاطرة.

في الخامس من يونيو كتبت تلك الكلمات قبل يومين من خضوعي لعملية جراحية أحمل تجاهها الكثير من المخاوف كعادتي من الخوف تجاه تلك الأشياء التي ترتبط بالمستشفيات، لقد كانت فترة صعبة لا أقترب فيها من الطعام كثيراً وأنتظر العيد ليس رغبة في الفرح ولكن رغبة في الخضوع لتلك الجراحة لربما يزول عني الخوف والألم معاً.

إنها ساعات تفصلني عن المجهول، أحمل بين يداي ورقة بها بعضاً من التعليمات التي علي أن ألتزم بها حتى تمر تلك الرحلة بسلام، رحلة نحو اللاشئ؛ لن أملك فيها زمام الأمور، سيمتد فيها جسدي تحت تأثير المخدر ليسحق ما تبقي لي من شعور ويبقي جسدي فاقداً الاحساس مستقبلاً كافة ما قد يفعل به، أعلم جيداً أنه في بعض الأحيان نلجأ لسلك طرق يحفها الألم على أمل أن تدفع عنا ألمً أشد وطأة، هكذا هي الحياة اختيار بين الصعب والأصعب.

“عُمت مساءً يا صديقي العزيز، ساعات تفصلك عن تجربة جديدة، ربما ليست جيدة كعادة التجارب التي نخوضها بمحض ارادتنا، ولكنها استثنائية بعض الشيء، فهي ليست بمحض إرادة، إلا إرادة البقاء، ستنهمر عليك كعادة التجارب بمعاييرها كي تفرض شروط اللعبة، شروط اللعبة تحتم علينا الانصياع والترقب، أظن أيضاً أن تلك المشاعر المتمكنة منك حالياً ستصنع خيوط تعزز من نفسك وأفكارك، ستُطلعك على أسرار جديدة تُخبئُها هذه الخلايا المُعقدة التي تُسمّى العقل، نحو ذاك والعالم.” هكذا كتب لي صديقي إسلام حسين.

الجمعة السابع من يونيو، ملابس العملية التي لا تملك بعد ارتدها أي تعليق كعادة ما نفعله عند ارتداء ملابس جديدة، قطعة من القماش بالكاد تستر جسدك وتمنحك الكثير من الخوف، لأمضي بعدها سيراً على الأقدام وأدخل غرفة العمليات التي رأيتها كثيراً على شاشات السينما، وعلى ذكر السينما يقولون في صناعة الأفلام أن نوع اللقطة المنخفضة تعطي شخصية المشهد شيئاً من العظمة والقوة أو ماشابه، ولكن أثناء العملية لم تكن بالنسبة لي كذلك؛ لقد كانت لقطة ضعف أرى فيها العالم من الأسفل للأعلى وليس بشكلٍ  مستقيمٍ، أرى فيها وجوه الأطباء لأدرك كم أنا ضعيف، النصف السفلي من جسدي فاقداً الشعور تماماً وطعنة السكين فيه تشبه وخذ أظافر إحداهن لا تأثير أكثر من ذلك، أما نصفي العلوي فقد رفض الخضوع لتلك المهدئات على غير رغبة مني، وظللت أرتجف بلا توقف كمُعذبٍ في غيابة السجن، الجميع يحاول أن يعاملني كطفلٍ مدللٍ تجاب كافة رغباته ويمنح من العطف والمواساه ما يكفيه، البعض يحاول أن يغطي الجزء العلوي من جسدي مخففاً عني ألام هذا السقيع أو اخباري بأن العملية على وشك الإنتهاء حتى وإن لم تكن، كان من المتوقع أن أقضي حوالي عشرون دقيقة في غرفة العمليات ولكن شاء القدر أن تمتد إلى تسعون دقيقة نظراً لما كانت عليه الآمور من تطور، حينما كان ينزعج الطبيب من حرارة الاضاءة الموجودة في غرفة العمليات والتي لا تختلف كثيراً عن تلك التي تظهر في الأفلام؛ كان يطلب منهم تغيير حرارة التكييف لأتذكر حينها كم كنت قاسياً تجاه من مكثو أمام الكاميرا وأنا اُحاول أن أكتشف قصصهم الحياتية وتزعجهم اضاءة التصوير، ربما تشابهت المشاهد ولكن حتماً اختلفت مشاعرها كلياً.

“الوقت كالسيف” لقد ثبت لي كذب تلك المقولة فهو لم يكن سيفاً وإنما كان سلحفاة تمشي على مهل، لقد شعرت في كثير من اللحظات أنني دخلت في فجوة من اللانهاية وسأستمر في هذا المشهد بلا توقف، لقد كان الوقت طويلاً ومليئاً بالأحاديث المتنوعة إما عني أو عن المحيطين بي داخل غرفة العمليات وأصبح الأمر أشبه بجلسة عادية تتعرف فيها على أصدقاء جدد.


بعد مرور الكثير من الوقت خرجت من غرفة العمليات وجسدي منسدح على السرير ليمشي بي بين الممرات وأرى وجوه المواسين لي وأسمع كلماتهم؛ ولكن لا طاقة لي للحديث، امتد جسدي على سرير الغرفة بالمستشفى بضعة ساعات حتى يقتنع المخدر أنني أستحق فرصة آخرى كي أعود إلى الحياة فيترك جسدي ليلحق بمريضٍ آخر، لأحاول بعدها أن أقف وأخطو خطوات بسيطة مليئة بالألم كمسنٍ بلغ من الكبر عتيا.

اليوم الرابع من الصداع الذي لا ينقضي ولا يوقف سيله شيئاً، مساء العاشر من يونيو كان الصداع قد وصل إلى منتهاه وبدأ يسير في ظهري لأشعر بتنميل ووجع شديد، ومع مطلع اليوم الجديد في الثانية صباحاً أوصاني الطبيب باللجوء إلى إحدى الصيدليات للحصول على حقنة، وكعادتي اُذكر الطبيب والصيدلي من حساسية العقاقير التي اُعاني منها، أخذت الحقنة بعد رحلة من البحث عن صيدلية أسير فيها متخذاً من أبي وأمي عكازاً لي رغم كبر سنهم وصغر سني؛ ولكن في لحظات الضعف تتبدل الأشياء بلا منطق، وكعادتي أن والقدر نخبئ لبعضنا البعض أشيئاً غير متوقعة، بعد ساعة مع حلول الفجر هاتفت أصدقائي مرة آخرى حيث عادوا بنا إلى المنزل ليأخذوني إلى الصيدلية مرة آخرى فقد سببت الحقنة لي حساسية كعادتها جعلت عيناي تكاد أن تنغلق.

190/100 
لقد كان رقماً مميزياً ينذر بأن ضغط دمي قد وصل إلى حداً لا يمكن السكوت عنه، لقد قضيت ليلة الثالث عشر من يونيو في طوارئ المستشفى اُشاهد إصابات متعددة مصحوبة بالأهات والصراخ في بعض الأحيان، مشاهد من الدماء كفيلة بأن تجعل ضغطك المرتفع يصل إلى منتهاه، بعد هذا العقار الذي وضعته تحت لساني بعد تنبيهات عديدة من الممرضة أن لا أقوم ببلعه وكأنها تتحدث إلى طفلها الذي بدأ يحبو وتحذره من بلع ما تلتقطه يداه من الأرض، وبعد بعضاً من فحوصات الدم بدأ ضغطي في الإنخفاض بعد أن أدرك أن الفجر قد حل وحان لتلك الليلة أن تنتهي كعادة تلك الليالي السابقة التي كانت تمتد إلى الفجر وجعلتني اسأل نفسي بسبب تكرارها الذي أفرغ طاقتي لماذا تتابع تلك الأشياء التي تُثبت لي كم أنا ضعيف فأنا لم أدعي القوة قط لذلك كنت أطلب من الله بإلحاح شديد أن يرفق بي.


إلى المخدر، كم كنت رحيماً وقاسياً، حرمتني بلطفك من الشعور بالألم وقتلتني بصرامتك من الشعور بالقوة والحرية في أن اُحرك جسدي فشكراً لك على كل حال؛ ولكني أكرهك وبشدة، شكراً لطبيبي العزيز دكتور رفعت على ما تملكه من علم ولطف أزلت به ما أملك من ألم وتقبلت به ما أملك من خوف؛ وكذلك الطبيبة التي ساعدتك في العملية ودكتور عبد الله طبيب التخدير والذي تفهم مقدار خوفي وكان رحيماً بي وبالتأكيد من اعتنوا بي من التمريض.

دائماً ما تعطيني تلك التجارب القاسية الكثير من الحكمة وتغلف عقلي بأفكاراً جديدة وتمنحني الفرصة لتقييم الأفكار القديمة، تمنحني الفرصة لأكتشف فرحاً أن رغم إنطوائيتي يحاوطني الكثيرين ممن وقفوا بجواري من الأصدقاء وعائلتي؛ لذلك أترك دعائي لهم في مقامٍ أفضل من أن يكتب ولكن ليردده لساني، دائماً تذكرني تلك التجارب أنه مهما أخذتك قدماك بعيداً عن الله لا تبعد رحمته؛ علاقة غير مفهومة تصعد فيها سقطاتك إلى السماء فتهبط على الأرض مغلفة باللطف، ترى في تلك الأثناء على بينة من بالفعل يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء. إن كل ما أتمناه الآن هو أن تذهب كل الألام بلا رجعة وأن تكلل تجربة تلك الجراحة بالنجاح بدون الرجوع إلى آلام أخرى.

هكذا قال لي صديقي “من رحمة الخالق أننا لا نختار سلك مثل هذه الدروب؛ ولكن عزائنا الوحيد أنها تمضي بلُطف "وكم لله من لُطف خفيّ” يا صديقي العزيز نحن بحاجة قصوى لتسجيل تلك المشاعر والأوقات والمشاهد، حتى نستطيع حفظها في مكانها الحقيقي بالذاكرة، حتى لا تلهو بنا وتنتقل من ركن لآخر، وحتى نخلق منها ما يجعلها عُكّاز كعصا موسى"
يونيو ٢٠١٩
Back to Top